يغيب عنا أناس كثر من جراء مشاغل الحياة وتزاحم المسؤوليات، ولو تفقدنا أرقام هواتفنا لحصدنا قائمة طويلة سنردد عند لفظ أي اسم فيها "وحشتني هذه الشخصية منذ زمن عنها".
وحتى مع وجود وسائل التواصل والتي قد يتواصل البعض فيها بالرسائل الجماعية أو المجموعات لكنها لا تشفي غليل لقاء الأحبة المباشر وصُنع أحلى الذكريات الجميلة معهم وتبادل أطراف الحديث مع معرفة آخر مستجدات حياتهم.
نحن بقرى القطيف وخاصة لدى الجنس الناعم منا تلقى تعبير "وحشتيني" متداولاً بأول استهلال للحديث مع أي طرف افتقدنا وجوده وهو كناية عن الوحشة والمكان الموحش بدون أنس هذا الشخص، وهي كلمة تدل على كم من المشاعر والشوق نهديها لمن يعز علينا ونستوحش حقًا بدونهم وبدون وجودهم.
لكن أجد مع الأيام أن هذه الكلمة بدأت بالبهتان مثلها مثل كلمة "أحبك" والتي استهلكت وباتت كلمة مطبوعة على الهدايا لا محسوسة فعلًا، كلمة توضع بسناريوهات الأفلام والمسلسلات بشكل مُقحم يدعو للتقيؤ، ففي الوحشة كذلك الكل بات يقول لك وحشتيني، ووحشنا فلان أو فلانة، بالطبع لا نكذب الجميع وهناك من نستشعر معنى الكلمة من نبرة الصوت ونغمة الوله فيه، لكن الوحشة تستدعي البحث عمن يُجليها، فإذا كان هناك شخص عزيز علينا قد استوحشنا يومياتنا بدونه فأقل شيء يثبت محبتنا له هو سماع صوته أو لقاؤه وتأجيل أي أمر قد يعيق التنور بأنسه.
كنت بالسابق دائمًا ما أغضب على إحدى صديقاتي المقربات لأنها لا تقول لي وحشتيني إلا نادرًا مهما افتعلت الغياب عنها كأسلوب "تغلي" وحتى لو كنت أعلم أنها تحبني لكنها لا تحب التعبير اللفظي، وكنت أزداد غضبًا حتى حين أسافر لمدة طويلة للزيارة أو الخدمة كانت تقول إنني لا أوحشها طالما كنت هناك، ربما لم أستوعب فلسفتها إلا مؤخرًا حيث إننا من حبنا للشخص نحن لا نستوحش إذا كان هو مستنير بقرب من يكون نورهم وأنسهم أعظم من أنسنا ونورنا نحن، بل سيصل النور إلينا حتمًا رغم بعد المسافة بطيات دعائه وبركات زيارته.
الآن باتت كلمة وحشتيني تؤذي أذني حقيقة لأني ربما بطبعي لا أقولها إلا بجدية ولمن هم فعلًا قد وحشني وجودهم وأتحمس للقائهم، ولا أعلم إن كانت تقال لي مجاملة أحيانًا وأنا أظنها حقيقة وحين نصل لموعد لقاء وتحديده أجد أن البساط قد تشتت لأجل غير معلوم، حتى فقدت شغف أن أقول لإحداهن وحشتيني لأني أخشى أن وحشتي لا تناسب ظروفها بلقاء أو مكالمة..
ووجدت أن هناك من يستحق أن نقول له وحشتني كل يوم أولى من كل الناس الذين نعرفهم، قالو لنا: "من عرف نفسه عرف ربه"، إن عرفت نفسي بفطرتها الأولى التي خلقني الله عليها وعدت معها لعدة سنوات من سنين عمري ووجدت كيف كانت لدي ميزات كانت قريبة من ربي قد نحتتها رياح الأيام والسنين فبالطبع سأقول لها وحشتيني بل ربما سأبكي عليها وبودي احتضانها بحرقة لكثرة ولهي بها وكي لا تغيب عني ثانية.
منذ فترة كنت أقرأ بكتاب وأحب عادة بالقراءة فقرة الأهداء بكل كتاب فهي مفتاح معرفة إذا كان الكتاب لدي جميلًا أم لا، فكان الإهداء مقدمًا لطفلنا الداخلي، وحمدت الله أنه لا يزال طفلي الداخلي حيًا يُرزق لم يمت فأحببت الإهداء إليه.
مهما كبرنا وكبرت أرقام أعمارنا لكن هناك أمور لا يحكمها رقم أو عمر، فالبكاء مثلًا في ساحة الشوق ليس شيئًا مخجلًا أبدًا وخاص فقط بالأطفال بل حتى أعظم العظماء كان يبكي بل ويجهش بالبكاء مثلهم.
أقرب شيء ربما أستطيع استجلاب وحشته لكم، هي ذكرى الذهاب للحسينيات لحضور المناسبات الدينية أو المساجد للصلاة والدعاء فيها والأنس فيها بوجود المؤمنين، خاصة لمن ترك هذه العادة بالطبع ستكون هناك وحشة للروح بترك هذه العادة التي تغذي أرواحنا وتربيها، والروح لو استشعرنا للحظات لوجدناها مخنوقة وسط زحمة الحياة وتحتاج أنفاس دعاء ونفحات صلاة.
فبعيدًا عن ابتعادنا عن أقاربنا أو أصحابنا أو أحبتنا وانشغالنا عنهم، يكفينا أننا بعيدون كل البعد عمن هو أقرب إلينا من حبل الوريد.
فمتى آخر مرة ناجيناه من قلب بدون أن يكون موسمًا اعتاد الجميع على مناجاته فيه؟
متى آخر مرة اختلينا معه بغرفة واحدة لم تكن خلوتنا داعية للشيطان ليكون ثالثنا أبدًا بل كان المطرود الذي لا يجرؤ الاقتراب من خلوة الحبيب بحبيبه؟
متى آخر مرة فتحنا كتابه لنسمع ماذا يُحدثنا لنستأنس بحديثه الذي تفوح منه روائح الحب لعبيده؟
متى عرضنا عليه أشواق قلوبنا ودعاءها عن حب لا عن حاجة ومصلحة نريدها منه؟
ألا يخطر ببالنا أن نقول له وحق عظمتك ربي نحبك رغم علمنا أن حبنا صفر أمام أرقام محبتك العظيمة لنا والتي لا نقوى على إحصائها؟
مهما عبّرنا نحن الضعفاء أمام أهوائنا واللاهجين وراءها فنحن لا نستطيع الوصول لمعنى يرتقي لمراقي التعبير عن الحب الإلهي وشوقه الحنون إلينا، ونحن أمامه لا نقوى حتى على طلب لقائه لمعرفتنا أن الموت سيكون بوابة اللقاء لأننا لم نعمّر آخرتنا بعد وننسى أنه حين يختارنا فهو يحبنا حقًا وسنكون تحت رحمته الواسعة التي لا تخذل من حسن الظن بها..
فإذا أخذتنا الدنيا بوحشتها وظُلمتها ولم نقو على طلب لقاء الله ونوره لقلة زادنا، فطلب لقاء أهل الله أيسر وبه نتزود ونستطيع أن نرفع صوت أرواحنا لديهم دون حياء كطفل يلوذ بهم وينادي وحشتني يا رسول الله ووحشني حنان أبوتك، وحشتيني يا زهراء ووحشني دفء عباءتك، وحشتني يا أمير المؤمنين ووحشني سيف عدالتك، وحشتني يا أبا محمد ووحشتني يد كرمك، وحشتني يا أبا عبد الله ووحشني حزني بقربك، وحشتوني يا سادتي جميعًا ووحشتني فضائلكم وكرامتكم.
فهل بعد القُرب تبقى وحشة؟



