14 , ديسمبر 2025

القطيف اليوم

دهن عود ..(الجزء الثاني)

بعد أن تأقلمت حاسة الشم مع خشب العود ودهن العود، وبعد أن تعلم الأنف كيف يقرأ حلقات الدخان ويحلل طبقات الرائحة، ننتقل إلى عالم أكثر عمقا وتأملا.. عالم خشب العود ( البخور ) ودهن العود، حيث لا مكان للسطحية، ولا مجال للحكم السريع، فكل قطرة تحمل تاريخ غابة، وصبر سنوات، وحرفة أجيال.

دهن العود ليس مجرد سائل عطري يلامس الجلد، بل هو خلاصة زمن، زمن امتزجت فيه الأشجار بالمطر، والحرارة بالرطوبة، والجراح الطبيعية بتفاعلات كيمائية خفية، حتى أنتجت تلك المادة الداكنة التي لا تفهم من أول شمة، ولا تحب من أول لقاء.

أول ما يدهشك في خشب العود عندما يمس لحائه الحرارة  يبدأ خيط الدخان الغامق والازرق يتحول اللى دخان عطري يملأ القلب بهجة وسرورا فكيف بدهن العود عندما تمتزج برائحة الدخان الذي يسمى بالبخور فالرائحة لا تسلمك نفسها دفعة واحدة، بل تراوغك. تبدأ حادة، أحيانا صادمة، ثم ما تلبث أن تلين وتستدير، وتفتح أبوابا لمشاعر لم تكن تعلم أنها مخزنة في ذاكرتك.
وهنا يكمن سحره..كذلك دهن العود يشم بالعقل كما يشم بالأنف.

الدهن الهندي، على سبيل المثال، يقف شامخا بثقله وهيبته، رائحة تحمل جدية عالية وزخمة حيوانية بسبب تفاعل بكتيريا اسمها اكولاريا Aquilaria التي بسببها تقاوم الشجرة تلك البكتيريا وتتفاعل معها كيمائيا وبعد مقاومتها لتلك البكتيريا يتمحور لحاء وأنسجة الشجر داخليا الى اللون الأسود الغامق وينتج منها تلك الرائحة النقية الصافية التي لامثيل لها، احيانا تلك الرائحة لا تجامل، ولا تناسب الجميع، لكن إن وافق مزاجك.. أصبح توقيعك الخاص الذي لايساومه أحد

أما دهن عود آسام (الهندي) اسم منطقة غابات هندية ، فهو حديث الغابات العميقة، رطب، مظلم، فيه شيء من الغموض والوقار، كأنه يهمس أكثر مما يتكلم.

وعندما نصل إلى الدهن السيلاني، فنحن أمام مشهد آخر، رائحة ترابية ناعمة، فيها خشوع المطر، ونفس الأرض بعد الغيث، دهن لا يصرخ، بل يحتضن، ويمنح شعورا بالسكينة والتوازن.

الدهن الكمبودي والتايلندي يختلفان بطابعهما “السويتي” الحلو، رائحة محببة، سهلة الاقتراب، لكنها ليست بسيطة، بل ذكية في تدرجها، تدخل المزاج بهدوء وتترك أثرا من الانشراح وصفاء الذهن، ولهذا شاع استعمالها وانتشرت بين محبي الدهن والباحثين عن متعة يومية راقية للإستخدام يومي..

أما إذا دخلنا عالم الدهن الماليزي والفلبيني، فنحن أمام مدرسة خاصة في التذوق. مذاق ملكي لايتسهان به، هنا لا يقاس الدهن بقوة حضوره فقط، بل بنقاء مساره، ونعومة انتقاله، وثباته على الجلد.

دهن صباح الماليزي، على وجه الخصوص، مثال للأناقة الصامتة،  يتباهى بجمال رائحته، و لاينسى.

وعندما نتعلي بدرجات النوادر فدهن هاينان الصيني، ذاك الذي يكسر القوالب، ويربك الحواس.
رائحة عطرية فاخرة، متداخلة، حتى إنك قد تشك من الوهلة الأولى: هل هذا فعلًا دهن عود؟ ام عطرا فاخرا تم صنعه بأفضل دور العطور. نعم.. لكنه من تلك الأنواع التي تثبت أن العود ليس حادا دائما بل سيمفونية عطر في الهواء، بل قد يكون ناعمًا، راقيًا، قريبًا من العطور الملكية.

والحقيقة التي لا يختلف عليها اثنان أن دهن العود لا يختار بالترشيح، بل بالانسجام، مايدهش غيرك قد لا يحرك فيك شيئا، وما يأسر قلبك قد يستغربه سواك. فالذوق هنا ليس معرفة فقط، بل تطابق روح مع رائحة.

وفي نهاية المطاف، يظل عالم دهن العود عالما لا نهائيا، مهما وصفنا، ومهما كتبنا، سنبقى على عتبة الاكتشاف.. لعل وصفي لايصطف بخبراء البخور والأدهان ولعل وصفي لتلك الادهان وخشب العود لاتتفق بذائقة من هم أكثر تجربة وخبرة مني.. فثمة غابات لم تمس، وأسرار لم تستخرج، وروائح لا يعلم جمالها إلا الله.

فسبحان من أودع في الأرض هذا التنوع،وسبحان من منحنا نعمة الشم لندرك أن بعض الجمال لا يرى، بل يستشعر.

وأنت، أيها القارئ، حين تبحث عن دهنك الخاص او عود خشب  ( بخور ) يليق بذائقتك، لا تسأل عن الأغلى أو الأشهر، بل اسأل عن الذي يوقف الزمن لحظة تشمه، ويدفع بذاكرتك إلى حيث لا تتوقع، دعه يختارك، كما تختاره


error: المحتوي محمي