14 , ديسمبر 2025

القطيف اليوم

كفيف يقتحم الطوارئ ويُنعش الحياة بيديه

في غرفة هادئة، وبين أنفاس وصمت، مدّ كفيف يديه على صدر دمية بلاستيكية، تحاكي جسد إنسان، في مشهد لم يكن من فيلم خيالي، بل لحظة حقيقية تجسّدت فيها واحدة من أكثر القصص إثارة في العمل الإنساني: كفيف يُدرَّب على الإنعاش القلبي الرئوي.

وبهذا المشهد انطلقت مساء الأربعاء 1 ذو الحجة 1446هـ، تجربة غير مألوفة، حملت اسم «المسعف الكفيف»، احتضنتها جمعية نقطة تحول بالتعاون مع فريق مسعفون بلا حدود وبدعم من مؤسسة الأمير محمد بن فهد.

25 مكفوفًا
ولم تكن الدورة رقمًا عابرًا، بل كانت قصة إرادة وجرأة، شارك فيها 25 كفيفًا وكفيفة، اجتمعوا في قاعة تدريبية تحولت إلى ساحة للأمل والتمكين، وعلى سجادة خضراء، جلسوا بخشوع يشبه المصلين، لكن بدلاً من الدعاء، كانت أيديهم تتحسس خطوات الحياة: «ضغطات، تنفس، إيقاع، وتركيز».

الإحساس بدل البصر
وتحدى المدربون كل القواعد التقليدية للتدريب، فلم يكن هناك شاشات تُعرض، ولا رسومات توضيحية. كل شيء اعتمد على اللمس، الصوت، والتكرار. أحد المدربين يوجّه المتدرب بصوت واضح: «ضع يدك هنا، اثنتان فوق بعض، الآن اضغط، بقوة ثابتة، تابع، أنت الآن تعيد النبض».

ولخّص قائد الفريق حسين الفتيل جوهر الدورة بعبارة تحمل معاني عميقة: «الكفيف ليس طارئًا بل منقذ طارئ»، مؤكدًا أن البرنامج يهدف إلى كسر الحاجز النفسي وإدماج المكفوفين في منظومة السلامة المجتمعية.

وأضاف: «نحن نُعِدّهم ليكونوا جزءًا من الحل في لحظات الأزمة، لأن الموقف الطارئ لا يسأل عن بصر… بل عن بصيرة واستجابة».

رحلة إنسانية
ورغم أن مكان الدورة بدا عاديًا: قاعة حواسيب، مقاعد مرقمة، أجهزة صامتة، لكن المشهد تغير تمامًا على الأرض. فهناك، اصطفت دمى الإنعاش بحجم الإنسان والرضيع، وحولها التفّ المكفوفون كجنود في تمرين دقيق. كانوا يضغطون، يعدّون، يصغون، ويستجيبون.

وامتدت هذه الورشة التدريبية على مدى ثلاث ساعات متواصلة، قُدمت فيها المهارات الإسعافية باستخدام أساليب تعليم متخصصة لذوي الإعاقة البصرية، اعتمدت على التوجيه الصوتي، والشرح باللمس، والمحاكاة الواقعية، بما يضمن وصول المعلومات إلى الجميع بكفاءة. وتوزع المشاركون والمشاركات من فئة المكفوفين على محطات تدريبية تفاعلية، أدارها فريق من المدربين والمتطوعين بخبرة وتفانٍ.

وفي مشهد إنساني بالغ التأثير، جلس أحد المتدربين وهو يحتضن دمية تمثل طفلًا رضيعًا بين يديه، يتلمّس مواضع الضغط والتنفس، فيما المدرب يوجّهه بلغة اليد والصوت، خطوة بخطوة. بدقة لافتة بدأ ينفذ إجراءات الإسعاف لطفل فاقد للوعي، وكأنه يهمس للحياة أن تعود، ذلك المشهد وحده كان كافيًا ليجسّد فلسفة البرنامج: حين يتحسس الكفيف نبض الحياة، يصبح شريكًا في حمايتها.

وعبّر المشاركون عن فخرهم وامتنانهم لخوض هذه التجربة الفريدة، مؤكدين أنها كسرت الصورة النمطية عن الإعاقة، وعزّزت ثقتهم بقدرتهم على أن يكونوا عناصر فاعلة في مجتمعهم، ليس فقط في مواقف الطوارئ، بل أيضًا في مجالات التدريب، والتطوع، والمشاركة المجتمعية.

وشارك في تنفيذ البرنامج طاقم تدريبي مؤهل ضم كلًا من: حسين الفتيل، محمد المشهد، صالح الخباز، يحيى عسيري، لينا النهدي، جنان أبو زيد، زهراء الناصر، أمنية السماني، سارة الشمري، وكوثر العبدالعال، الذين شكّلوا جميعًا حلقة دعم مهنية وإنسانية مميزة.

لم يكن المكفوفون في هذا اليوم مجرد متلقّين يجلسون على مقاعد المتفرجين، بل كانوا في صميم الحدث، في قلب التجربة. لم يُعاملوا كمحتاجين للنصح، بل كأشخاص يُهيّأون للتدخل وقت الحاجة. 

ولم ينتظروا من يُسعفهم، بل تعلّموا كيف يكونون هم المسعفين، ولم يكن الهدف من الدورة مجرد نقل معلومة، بل الإجابة على سؤال ظل يتردد في الأذهان، هل يستطيع الكفيف إنقاذ حياة، وكل لحظة من التدريب كانت تصرخ بالإجابة، نعم، وبكل ثقة وقوة.






error: المحتوي محمي