14 , ديسمبر 2025

القطيف اليوم

لكنَّها لم ترحل.. 29

الإنسان يموْتُ في أيّ لحظة من حياته، ولكنَّ ثمَّة شيءٌ آخر له فاعليَةُ الموت، وهو أن يمُوت شيءٌ ما في داخلك، قد يتشكَلُ على هيئة كائِنٌ بشري.

قد يكون في جُعبَتُكِ ما هو لوْمُ كبيْرٌ على قيامي بطلب قرض إليه، لصمتُكِ آلاف الكلمات، لعينيكِ ارتعَاشُ توجُس، الخوْفُ من القادم، الغَامِضَ ولا يشي بضوء.

من يهفُو إلى شيء ما يرَاهُ البلسم إلى قلبه ورُوحه تجديهُ يتصرَفُ على غير قناعة، لا يكون في وسعه أن يُبرر، أو أن يُدافع عن شيء لم يكُن ضمن قناعاته، وقد جاء ضمن خياراته، أوليس بعْضْ الخسارات تأتي حاجَةٌ مُلحَةٌ، ليس لأنَّها ستُنتِجُ رُبحًا بناء على قواعد الحسابات الرياضية، ولكنَّها تأتي خداعًا نتلذَذُ به، نعْلمُ أنَّه خدَاعٌ نستجدي منه أملًا، أو ما يصِحُ القول عنه بأنَّه وهمٌ نحتاجَهُ كعُكاز يُساعِدُنا على الصُّعود فوق عتبات الحياة.

أرسلت ياسمين هذه الرّسالة إلى حنان، وأغلقت هاتفها المحمول كي لا تدخل في نقاش معها، فهي رافضّةٌ قيامها باستخراج قرض إلى زوجها عندما أخبرتها بذلك في الاتصال الأخير الذي جرى بينهما، وطلبت منها التَّريْثُ في ذلك، واختتمت رسالتها بالدعاء بالتوفيق لها في عقد قرانها، والذي سيكون في ليلة الخميس القادم، ووعدتها بالحُضور مع عبير صبحًا؛ لتكون معها، وكتبت: كل التوفيق يا توأم رُوحي، أحبُكِ يا حنان، أنتِ تستحقين السَّعادة والبهجة.

في المساء توجهت إلى هاتفها المحمول، تناولتْهُ ببُرود وإذا برسالة من البنك تُشير إلى إيداع مبلغ القرض في حسابها، ضاق صدرها، أحست بخوف ينتابُها، استعاذة بالله من هذه الخواطر المُتتالية، وقامت بالاتصال بزوجها؛ لإبلاغه.

بانت السَّعادَةُ على كلماته، وأغدقها بكلّ ما تتمنَاهُ الأنثى من الإعجاب والتقدير، والذي يُرطِبُ مشاعرها، ويجعلها كالنَّدى على أوراق خضراء، تنسَابُ في صباح بهيج الطلَّة.

صامتَةٌ لاتزال تُصغي إليه!

أوليس هذا الإحساس في الإصغاء إلى كلمات الحُب والإشادة، يغمرُها بالسَّعادة، حيث إنَّ هذه الكلمات لا تخرج من قلبها؟

قطع صمتها الدَّافئ إخبارَهُ لها بأنَّه قادِمٌ الآن.

وقبل أن تُنهي المُكالمة أخبرتْهُ بأنَّها ستقُوم بتحويل المبلغ على حسابه البنكي، ولم تنس التَّأكيد عليه بإرجاعه بعد تحسُن وضعه، وقام بوعدها خيرًا وشكرها؛ لتطمئن، وهو يضحَكُ بشكل أثار خوفها.

جلست في مكتبها، أخذت تقرأ رواية أدبية، والتي قامت بشرائها مُؤخرًا.

هل تكُون قراءَة الرّوايات الأدبية مُجرَدُ تسلية ومُتعة، أو قضاء وقت الفراغ؟

قد يظِنُ البعض ذلك، ولكن في حقيقتها لا يقتصر الأمر على هذا أو ذاك، بكونها حيَاةٌ يعيشُها القارئ، لذا لا تغدو فقط تسلية ومُتعة آنية، أو قضَاء وقت لا يحتوي على ما يملأ زواياه.

هُناك ثمَّة ما يبقى في ذات القارئ، وفي عقله، والذي يُجسِدُ ثقافتَهُ، لذا يُعرِفُ البعض الثقافة بأنَّها ذلك الشيء الذي يبقى لدينا بعد الانتهاء من القراءة.

هذا الشيء الذي يبقى فينا، هو ما تبحْثُ عنه ياسمين، إنَّها كُلَّما اختنقت بعبرتها، أو شعرت بضيق، تُسافِرُ بكُلّها إلى القراءة؛ الأنيس الذي تشتاقَهُ لتحط رحالها بين ظلاله.

ما بين اليقظة والنُّوم، حدَّثت نفسها بكلمة الرّوائي الفرنسي فيكتور هوغو، والذي أبحر في ذاته؛ ليُهدي القارئ أبعادًا أكثر منطقية تحتَاجُ إلى التَّأمل، وهي: أقدِمُ الاعتذار إلى ذاتي عن كلّ تقصير بدر مني تجاهها، لعلَّي أعيْدُ ترتيب أولوياتي.

لأول مرَّة الفوضى تجتاحُني، لأخلِدُ إلى النُّوم، سأكُون قوية في مُواجهة ما تُدلي به الأيَامُ لي.

أطفأت الأنوار، استلقت على فراشها، تُحدّق في السَّقف بعُمق النَّظر الحاد، وكأنَّها أرادت أن تقرأ ما خُفي من لمساته القاسية، تستلهِمُ من العتمة أشرعت الفكرة، ابتسامَةٌ خفيفَةٌ تعتري ملامحها، وهمست لذاتها: لماذا لا أبحَثُ عن صدق ما قاله لي عن عرضه المُطعم للبيع، وعن التداول في البُورصة، استدركت: ولكن كيف سأعرف كلّ هذه المعلومات؟

أجابت استدراكًا: سأسعى ولا بد سأجِدُ طريقة ما تضعُني في بداية الطريق، فالأهم أن أستمر؛ لأريح نفسي من هذه الخواطر، أيكون إحساسي صادقًا، أتمنى أن يُجانبَه الصَّواب، يكفيني موضوع الأمومة الذي يحرمُني منه بسبب عناده، واستمرار هُروبه من مناقشته، والمُبادرة إلى العلاج إن كان هناك ما يمنع.

استيقظت من النَّوم قبل المغرب لم تجدْهُ، بحثت عنه في الشُّقة لم تجدْهُ، تعجبت، ليس من عادته أن يكون في الخارج كلّ هذا الوقت، حتى إنَّه أخبرها أنَّه سيأتي لها ولم يأت.

عسى المانِعُ خير، تناولت هاتفُها المحمول، وقامت بالاتصال به وأصابعُها ترتعش!


error: المحتوي محمي